كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتعقب بأن من النساء هناك قرينة على العموم ولا قرينة هنا، وجعل كون حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن شيء فالأولى الاعتماد على ما تقدم؛ والإحصان هنا لا يتحقق إلا بتحقق العفة عن الزنا وهو معناه المشهور وبالحرية والبلوغ والعقل والإسلام.
قال أبو بكر الرازي: ولا نعلم خلافًا بين الفقهاء في ذلك.
ولعل غيره علم كما ستعلم إن شاء الله تعالى.
وثبوته بإقرار القاذف أو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين خلافًا لزفر.
ووجه اعتبار العفة عن الزنا ظاهر لكن في شرح الطحاوي في الكلام على العفة عدم الاقتصار على كونها عن الزنا حيث قال فيها: بأن لم يكن وطىء امرأة بالزنا ولا بشبهة ولا بنكاح فاسد في عمره فإن كان فعل ذلك مرة يريد النكاح الفاسد تسقط عدالته ولا حد على قاذفه، وكذا لوطىء في غير الملك كما إذا وطىء جارية مشتركة بينه وبين غيره سقطت عدالته، ولو وطىء في الملك إلا أنه محرم فإنه ينظر إن كانت الحرمة مؤقتة لا تسقط عدالته كما إذا وطىء امرأته في الحيض أو أمته المجوسية.
وإن كانت مؤبدة سقطت عدالته كما إذا وطىء أمته وهي أخته من الرضاعة.
ولو مس امرأة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثم تزوج بنتها فدخل بها أو أمها لا يسقط إحصانه عند أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما يسقط، ولو وطىء امرأة بالنكاح ثم تزوج بها سقط إحصانه انتهى.
والمذكور في غير كتاب أن أبا حنيفة يشترط في سقوط الحد عن قاذف الواطىء في الحرمة المؤبدة كون تلك الحرمة ثابتة بحديث مشهور كحرمة وطء المنكوحة بلا شهود الثابتة بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا نكاح إلا بشهود» وهو حديث مشهور أو ثابتة بالإجماع كموطوأة أبيه بالنكاح أو بملك اليمين لو تزوجها الابن أو اشتراها فوطئها، ومثل ذلك عنده وطء مزنيته فإنه لا يعتبر الخلاف عند ثبوت الحرمة بالنص وهنا قد ثبتت به لقوله تعالى: {مِنكُم ميثاقا غَلِيظًا وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 22] وإنما يعتبره إذا ثبتت بقياس أو احتياط كثبوتها بالنظر إلى الفرج والمس بشهوة فإن ثبوتها فيما ذكر لإقامة السبب مقام المسبب احتياطًا، ومن هذا يعلم حال فروع كثيرة فليحفظ، وما ذكر من سقوط إحصان من وطىء أمته وهي أخته من الرضاع فيه خلاف الكرخي فإنه قال، لا يسقط الإحصان بوطئها وهو قول الشافعي ومالك وأحمد لقيام الملك فكان كوطء أمته المجوسية، وفيه أن الحرمة في وطء المجوسية يمكن ارتفاعها فتكون مؤقتة وحرمة الرضاع لا يمكن ارتفاعها فلم يكن المحل قابلًا للحل أصلًا، واشترط في الملك أن لا يظهر فساده بالاستحقاق فلو اشترى جارية فوطئها ثم استحقت فقذفه إنسان لا يحد، وفي كافي الحاكم والقهستاني والفتح أن الوطء في الشراء الفاسد يسقط الحد عن القاذف وحمله بعضهم على ما ذكرنا، وقال بعض الأجلة: كما يشترط العفة عن الزنا يشترط السلامة عن تهمته ويحترز به عن قذف ذات ولد ليس له أب معروف فإنهم ذكروا أنه لا يحد قاذفها لمكان التهمة، وقد ذكر ذلك الحصكفي في باب اللعان من شرح تنوير الأبصار، ولا تقاس اللواطة على الزنا فلو قذف بها لا يحد القاذف خلافًا لأبي يوسف: ومحمد وقد اختلفا في أحكام كثيرة ذكرها زين الدين في بحره.
وأما اعتبار الحرية فلأنها يطلق عليها اسم الإحصان قال الله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] فإن المراد بالمحصنات فيه الحرائر فالرقيق ليس محصنًا بهذا المعنى وكونه محصنًا بمعنى آخر كالإسلام وغيره فيكون محصنًا من وجه دون وجه وذلك شبهة في إحصانه فوجب درء الحد عن قاذفه فلا يحد حتى يكون محصنًا بجميع المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره في تحقق الإحصان وهو كون المقذوفة زوجة أو كون المقذوف زوجًا فإنه جاء بمعناه في قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النساء} [النساء: 24] أي المتزوجات ولا يعتبر في إحصان القذف بل في إحصان الرجم، ثم لا شك في أن الإحصان أطلق بمعنى الحرية كما سمعت وبمعنى الإسلام في قوله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] قال ابن مسعود: أسلمن وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان، وعن داود عدم اشتراط الحرية وأنه يحد قاذف العبد؛ وأما اعتبار العقل والبلوغ ففيه إجماع إلا ما روي عن أحمد عليه الرحمة من أن الصبي الذي يجامع مثله محصن فيحد قاذفه، والأصح عنه موافقة الجماعة، وقول مالك في الصبية التي يجامع مثلها يحد قاذفها خصوصًا إذا كانت مراهقة فإن الحد لعلة إلحاق العار ومثلها يلحقه العار، وكذا قوله وقول الليث: إنه يحد قاذف المجنون لذلك، والجماعة يمنعون كون الصبي والمجنون يلحقهما العار بنسبتهما إلى الزنا بل ربما يضحك من ناسبهما إليه إما لعدم صحة قصده منهما وإما لعدم مخاطبتهما بالمحرمات وما أشبه ذلك، ولو فرضنا لحوق عار بالمراهق فليس ذلك على الكمال فيندرىء الحد، ومثل الصبي والمجنون في أنه ربما يضحك من نسبة الزنا إليهما الرتقاء والمجبوب بل هما أولى بذلك لعدم تصوره فيهما ولذا لا يحد بقذفهما، وإلا ما روي عن سعيد وابن أبي ليلى من أنه يحد بقذف الذمية إذا كان لها ولد مسلم، وكذا ما قيل: إنه يحد بقذفها إذا كانت تحت مسلم، ثم إن الإسلام والحرية إذا لم يكونا موجودين وقت الزنا المقذوف به بل كانا موجودين وقت القذف لا يفيدان شيئًا فلو قذف امرأة مسلمة زنت في نصرانيتها أو رجلًا مسلمًا زنى في نصرانيته وقال: زنيت وأنت كافرة أو زنيت وأنت كافر أو قذف معتقًا زنى وهو عبد أو معتقة زنت وهي أمة وقال: زنيت وأنت صغيرة أو زنيت وأنت مجنون بأنه لا يحد، وكان المدار في درء الحد الصدق في كل ذلك، ومن هنا قال في المبسوط: إن الموطوأة إذا كانت مكرهة يسقط أحصانها ولا يحد قاذفها كما يسقط إحصان المكره الواطىء ولا يحد قاذفه لأن الإكراه يسقط الإثم ولا يخرج الفعل به من أن يكون زنى، لكن ذكر فيه أن من قذف زانيًا لا حد عليه سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنى آخر من جنسه أو أبهم في حالة القذف، ووجه أن الله تعالى أوجب الحد على من رمى المتصف بالإحصان وبالزنا لا يبقى إحصان فلا يثبت الحد خلافًا لإبراهيم وابن أبي ليلى، نعم إذا كان القذف بزنا تاب عنه المقذوف يعزر القاذف، وهذا يقتضي أنه لا يحتاج سقوط الحد في المسائل السابقة إلى التقييد فليتأمل، ولو تزوج مجوسي بأمه أو بنته ثم أسلم ففسخ النكاح فقذفه مسلم في حال إسلامه يحد عند أبي حنيفة عليه الرحمة بناءً على ما يراه من أن أنكحة المجوس لها حكم الصحة.
وقال الإمامان: لا يحد بناءً على أن ليس لها حكم الصحة وهو قول الأئمة الثلاثة، ولا يعلم خلاف بين من يعتبر الحرية في الإحصان في أنه لا حد على من قذف مكاتبًا مات وترك وفاء لتمكن الشبهة في شرط الحد وهو الإحصان لاختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أنه مات حرًا أو عبدًا وذلك يوجب درء الحد ولأنه يدرأ بالشبهة، لا يحد من قذف أخرس فإن هناك احتمال أن يصدقه لو نطق ولا يعول على إشارته هنا وإن قالوا: إنها تقوم مقام عبارته في بعض الأحكام لقيام الاحتمال فيها، واشترطوا أيضًا أن يوجد الإحصان وقت الحد حتى لو ارتد المقذوف سقط الحد ولو أسلم بعد، وكذا لو زنى أو وطىء وطًا حرامًا أو صار معتوهًا أو أخرس وبقي ذلك لم يحد كما في كافي الحاكم، واشترطوا أيضًا أن لا يموت قبل أن يحد القاذف لأن الحد لا يورث، وأن لا يكون المقذوف ولد القاذف أو ولد ولده فلا يحد من قذف أحدهما إلى غير ذلك مما ستعلم بعضه إن شاء الله تعالى.
ولم يصرح أكثر الفقهاء بشروط القاذف، ويفهم من كلامهم أنه يشترط فيه أن يكون بالغًا فلا يحد الصبي إذا قذف ويعزر عاقلًا فلا يحد المجنون ولا السكران إلا إذا سكر بمحرم ناطقًا فلا يحد الأخرس لعدم التصريح بالزنا، وصرح بهذا ابن الشلبي عن النهاية طائعًا فلا يحد المكره قاذفًا في دار العدل فلا يحد القاذف في دار الحرب أو البغي، وفي الآية إشارة إلى بعض ذلك، ويحتمل أن يعد من الشروط كونه عالمًا بالحرمة حقيقة أو حكمًا بأن يكون ناشئًا في دار الإسلام، لكن في كافي الحاكم حربي دخل دار الإسلام بأمان فقذف مسلمًا يحد في قوله الأخير وهو قول صاحبيه، وظاهره أنه يحد ولو كان قذفه في فور دخوله، ولعل وجهه أن الزنا حرام في كل ملة فيحرم القذف به أيضًا فلا يصدق بالجهل، ويشترط أن يكون القذف بصريح الزنا بأي لسان كان كما صرح به جمع من الفقهاء وألحقوا به بعض ألفاظ ثبت الحد بها بالأثر والإجماع فيحد بقوله: زنيت أو زاني بياء ساكنة وكذا يا زانىء بهمزة مضمومة عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافًا لمحمد فلا يحد بذلك عنده لأنه حقيقة عنده في الصعود.
وتعقب بأن ذلك إنما يفهم منه إذا ذكر مقرونًا بمحل الصعود، على أنه ينبغي أن يكون المذهب أنه لو قيل مع ذكر محل الصعود في حالة الغضب والسباب يكون قذفًا، فقد جزم في المبسوط بالحد فيما إذا قال: زنأت في الجبل أو على الجبل في حالة الغضب ولو قال لامرأة: يا زاني حد اتفاقًا، وعلله في الجوهرة بأن الأصل في الكلام التذكير، ولو قال للرجل: يا زانية لا يحد عند الإمام وأبي يوسف لأنه أحال كلامه فوصف الرجل بصفة المرأة، وقال محمد: يحد لأن الهاء تدخل للمبالغة كما في علامة.
وأجيب بأن كونها للمبالغة مجاز بل هي لما عهد لها من التأنيث ولو كانت في ذلك حقيقة فالجد لا يجب للشك، ويحد بقوله: أنت أزنى من فلان أو مني على ما في الظهيرية وهو الظاهر، لكن في الفتح عن المبسوط أنه لا حد في أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس، وعلله في الجوهرة بأن معناه أنت أقدر على الزنا، وفي الفتح بأن أفعل في مثله يستعمل للترجيح في العلم فكأنه قال: أنت أعلم بالزنا، ولا يخفى أن قصد ذلك في حالة السباب بعيد، وفي الخانية في أنت أزنى الناس أو أزنى من فلان الحد، وفي أنت أزنى مني لاحد، ولا يخفى أن التفرقة غير ظاهرة، وقد يقال: إن قوله: أنت أزنى من فلان فيه نسبة فلان إلى الزنا وتشريك المخاطب معه في ذلك بخلاف أنت أزنى مني لأن فيه نسبة نفسه إلى الزنا وذلك غير قذف فلا يكون قذفًا للمخاطب لأنه تشريك له فيما ليس بقذف، ويحد بلست لأبيك لما فيه من نسبة الزنا إلى الأم ولما جاء في الأثر عن ابن مسعود لاحد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل من أبيه، وقيد بكونه في حالة الغضب إذ هو في حالة الرضا يراد به المعاتبة بنفي مشابهته له، وذكر أن مقتضى القياس أن لا حد به مطلقًا لجواز أن ينفي النسب من أبيه من غير أن تكون الأم زانية من كل وجه بأن تكون موطوأة بشبهة ولدت في عدة الواطىء لكن ترك ذلك للأثر، ولا حد بالتعريض كأن يقول ما أنا بزان أو ليست أمي زانية وبه قال الشافعي وسفيان الثوري وابن شبرمة والحسن بن صالح وهو الرواية المشهورة عن أحمد، وقال مالك وهو رواية عن أحمد: يحد بتالعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال كان: عمر رضي الله تعالى عنه يضرب الحد بالتعريض، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه جلد رجلًا بالتعريض، ولأنه إذا عرف المراد بدليله من القرينة صار كالصريح، وللجماعة أن الشارع لم يعتبر مثله فإنه حرم صريح خطبة المتوفي عنها زوجها في العدة وأباح التعريض فقال سبحانه: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا} [البقرة: 235] وقال تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء أَوْ أَكْنَنتُمْ} [البقرة: 235] فإذا ثبت من الشرع عدم اتحاد حكمهما في غير الحد لم يجز أن يعتبر مثله على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه، وهو أولى من الاستدلال بأنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم الحد للذي قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلامًا أسود يعرض بنفسه لأن إلزام حد القذف متوقف على الدعوى والمرأة لم تدع ذلك، ولا حد بوطئك فلان وطأ حرامًا أو جامعك حرامًا أو فجرت بفلانة أو يا حرام زاده أو اذهب فقل لفلان: إنك زان فذهب الرسول فقال له ذلك عنه بأن قال: فلان يقول إنك زان لا إذا قال له: إنك زان فإنه يحد الرسول حينئذٍ، واستيفاء ما فيه حد وما لا حد فيه في كتب الفقه، وقولنا في كذا حد على إرادة إذا تحقق الشرط المفهو من قوله سبحانه: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ} الخ، واشترط الإتيان بأربعة شهداء تشديدًا على القاذف، ويشترط كونهم رجالًا لما صرحوا به من أنه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود، وظاهر إتيان التاء في العدد مشعر باشتراط كونهم كذلك، ولا يشترط فيهم العدالة ليلزم من عدم الإتيان بأربعة شهداء عدول الجلد لما صرح به في الملتقط من أنه لو أتى بأربعة فساق فشهدوا أن الأمر كما قال درىء الحد عن القاذف والمقذوف والشهود، ووجه ذلك أن في الفاسق نوع قصور وإن كان من أهل الأداء والتحمل ولذا لو قضى بشهادته نفذ عندنا فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا فيسقط الحد عنهم وعن القاذف وكذا عن المقذوف لاشتراط العدالة في الثبوت، ولو كانوا عميانًا أو عبيدًا أو محدودين في قذف فإنهم يحدون للقذف دون المشهود عليه لعدم أهلية الشهادة فيهم كما قيل.